ترجع جذور الخطاب الأيديولوجي الإسلامي في فلسطين إلى مرحلة حديثة نسبياً، وبالتحديد إلى منتصف الخمسينات. فبالرغم من انهيار الرابطة العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وبالرغم من الآثار الاجتماعية والثقافية واسعة النطاق لبرامج التحديث العثمانية وسياسات إدارة الانتداب البريطاني، فقد استمر الإسلام إطاراً تمثيلياً لخطاب المجتمع العربي الفلسطيني حتى النكبة الأولى في عام 1948. واجه هذا التمثيل بالطبع تحديات أيديولوجية شيوعية أو قومية علمانية في مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية، إلا أن هذه التحديات كانت أضعف من أن تفرض على الإسلام تبرير دوره ووجوده التاريخي ضمن خطاب أيديولوجي. ويمكن ملاحظة هذا التطور في الخطاب الإسلامي وفي تعبيراته الأيديولوجية في الساحة المصرية منذ نهاية الثلاثينات، بيد أن عملية الفرز والانقسام الأيديولوجي في فلسطين كان عليها أن تنتظر إلى ما بعد 1948.
تعتبر حركة الإصلاح الإسلامي أهم تجل فكري وسياسي لحركة النهوض العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى عشية الحرب العالمية الثانية. ورغم الانقسام السياسي قصير العمر داخل الحركة الإصلاحية العربية الذي وضع أمثال شكيب أرسلان وعبد العزيز جاويش إلى جانب الدولة العثمانية، وأمثال رشيد رضا وعزيز المصري ضدها إبان سنوات الحرب الأولى، فإن الإصلاحيين العرب سرعان ما أعادوا ضم صفوفهم بعد أن أودت الحرب بالدولة العثمانية وبمشروع إقامة دولة عربية موحدة معاً. شكل الإصلاحيون العرب، تلامذة محمد عبده، الأفغاني، محمود شكري الألوسي، جمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري، عماد الثقافة والسياسة العربية في مرحلة ما بين الحربين، سواء على مستوى الدول القطرية المستقلة وشبه المستقلة، أو على مستوى حركات المعارضة والنضال من أجل الاستقلال. غير أن الجيل الثاني من الإصلاحيين كان ما يزال يحمل في داخله أزمة المشروع الإصلاحي، التي رافقت ولادته في نهاية القرن السابق، أزمة التركيب الذي لم ينجز قط بين العروبة والإسلام، وبين الغرب والإسلام. وبدا منذ مطلع الثمانينات وكأن هذا التركيب يوشك أن ينهار. إن الأسباب الرئيسية وراء هذا الانهيار تقع في المواجهة العربية مع الإمبريالية، وفي تعثر المشروع العربي.
يمكن القول، رغم بعض الاستثناءات، أن تفكك المشروع الإصلاحي العربي على المستوى السياسي، قد سبق تفككه الأيديولوجي، وأن الأخير قد وقع أولاً في مراكز الثقل العربية التي تعرضت منذ مرحلة مبكرة لوطأة حركة التحديث. إن الانقسام الفلسطيني الداخلي بين الحسينيين والنشاشيبيين، والصراعات السورية بين عبد الرحمن الشهبندر وجميل مردم وشكري القوتلي، والعراقية بين نور السعيد والكيلاني، والمصرية بين الوفد والقصر، كانت جميعاً ذات طابع سياسي يفتقد المرتكزات الأيديولوجية المميزة لطرفي الصراع. بيد أن بروز جماعة الأخوان المسلمين ومصر الفتاة كقوتين سياسيتين بمحتوى أيديولوجي محدد في نهاية الثلاثينات واحتدام الصراع بين العروبيين الإسلاميين وأنصار القطرية والتغرب أعطى للانقسام داخل مصر سمات أيديولوجية لا تخفى.
هناك عدة عوامل ساهمت في تأجيل الفرز الأيديولوجي في الساحة الفلسطينية، منها: أن فلسطين لم تتعرض لذات المستوى والمدى التحديثي الذي تعرضت له مصر مثلاً، ولذا فقد حافظت قوى المجتمع التقليدي (أو الأهلي) على كياناتها لفترة أطول نسبياً. كما أن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية قد تجسدت في مفتي القدس الحاج أمين الحسيني الذي مثّل انتماؤه لعائلة مقدسية تقليدية ولطبقة العلماء في الوقت نفسه، رمزاً لاستمرار دور الإسلام وسيطرته في الحياة السياسية الفلسطينية. ومن ناحية أخرى كان الخطاب الفلسطيني العربي الوحدوي مازال خطاباً إسلامياً إصلاحياً سواء في دوائر الحاج أمين الحسيني أو في دوائر مجموعة حزب الاستقلال ذات التوجه العربي الوحدوي الواضح (عوني عبد الهادي، عزة دروزة، عجاج نويهض، وشيد الحاج إبراهيم). حيث عبرت العروبة عن ذاتها بتعبيرات إسلامية على الأغلب. ولكن العامل الأهم من ذلك كله كان في طبيعة الصراع الدائر في فلسطين. فقد أدرك الفلسطينيون بشكل مبكر أن الصراع مع المشروع الصهيوني هو في جوهره صراع وجود، مما أدى إلى أن يتصدر هذا الصراع قائمة الأولويات السياسية والفكرية لمعظم الفلسطينيين. كان الحزب الشيوعي الفلسطيني ـ وسيبقى لفترة طويلة بعدها ـ قوة سياسية وأيديولوجية هامشية. كما أن النخبة الفلسطينية وإن تأثر معظمها بالتركيب الإصلاحي للإسلام والغرب، لم تفرز اتجاهات غربية قاطعة مثل تلك التي مثلها طه حسين ولطفي السيد في مصر. لقد تحول الغرب في فلسطين، قبل أي منطقة أخرى في المشرق العربي، من حليف للحركة العربية في الحرب الأولى إلى عدو.
بدأ تأسيس نوادٍ للشبان المسلمين في فلسطين مباشرة بعد أن تأسست جمعية الشبان في مصر في نهاية العشرينات. كما استطاع الإخوان المسلمون، بتوجيه من حسن البنا، أن يفتتحوا أول فرع للحركة في فلسطين منذ منتصف الأربعينات. بيد أن نوادي الشبان المسلمين لم تطرح كقوة سياسية وأيديولوجية متميزة، وسرعان ما أصبحت ساحة لنشاطات القوى السياسية الفلسطينية الأخرى مثل حزب الاستقلال والحركة القسامية. كما لم يشكل الإخوان المسلمون قوة منافسة لقيادة الحاج أمين الحسيني، بل على العكس حرصت قيادة الإخوان في القاهرة ونواة قواعدهم الأولى في فلسطين على العمل جنباً إلى جنب، ومن داخل الأطر التي قادها المفتي. كما تمت المشاركة الإخوانية البارزة في حرب فلسطين بمباركة وترحيب الحاج أمين الحسيني الواضحتين. غير أن الساحة الفلسطينية ستتعرض لمتغيرات سياسية وأيديولوجية جذرية بعد هزيمة 1948.
سنوات الأزمة
أدت هزيمة 1948 إلى أن يخسر الفلسطينيون كيانهم الوطني السياسي بعد تجريد وتشريد قطاع واسع منهم، وتقسيم فلسطين بين دولة الكيان الصهيوني والمملكة الأردنية الهاشمية ومصر. حاول الحاج أمين الحسيني، على رأس جزء من القيادات السياسية الفلسطينية، أن يؤسس حكومة وطنية في مدينة غزة في خريف 1948. ولكن هذه المحاولة أجهضت في مهدها بضغوط من الحكومة المصرية. وقد أجبر الحاج أمين الحسيني على مغادرة غزة إلى القاهرة بعد قليل من مغادرة حكومة عموم فلسطين إلى العاصمة المصرية. وسرعان ما أدى عجز حكومة عموم فلسطين المالي إلى تسريح قوات المتطوعين الفلسطينيين في منطقة غزة مباشرة بعد توقيع اتفاقيات الهدنة المصرية ـ الإسرائيلية في مطلع 1949، منهية بذلك آخر مظهر للسيادة الوطنية. وتم بموازاة هذا التطور توحيد منطقة المرتفعات الوسطى من فلسطين ـ الضفة الغربية ـ بإمارة شرق الأردن تحت تاج المملكة الأردنية الهاشمية. إن التفسير السائد لخطوة توحيد الضفتين يرى في طموحات الأمير عبدالله (الملك بعد ذلك) القوة المحركة الرئيسية وراء اعتناق القيادة الفلسطينية في الضفة الغربية لمشروع التوحيد. ولكن الحقيقة أن تلك الطموحات قد التقت في وقت واحد مع مخاوف فلسطينية متزايدة من استمرار التوسع الإسرائيلي وضياع الضفة الغربية. لقد رأى قطاع واسع من القيادات الفلسطينية آنذاك أن توحيد الضفتين وإن لم يكن من المحتمل أن يوفر الدرع العسكري فقد يوفر الحماية السياسية والديبلوماسية.
جاءت الهزيمة ـ إلى جانب فقدان الكيان الوطني ـ بمتغيرات هامة على مستوى الخارطة الاجتماعية والسياسية للشعب الفلسطيني ذاته. فقد خسرت قيادات ما بعد الحقبة العثمانية ـ التي سيطرت عليها فئة أعيان المدن ـ امتحانها الكبير، واهتزت بالتالي مواقعها السياسية. كما نتج عن حركة التهجير الواسعة فقدان مرتكزات الثروة لقطاع كبير من الأعيان، خاصة في مجال ملكية الأراضي، مما أفسح المجال لتقدم ملحوظ في مواقع أبناء الطبقة الوسطى من المهنيين الذين تلقوا تعليماً حديثاً في مرحلة الانتداب أو بعدها مباشرة. وقد تضافرت الآثار البليغة للهزيمة وانهيار الكيان الوطني، إلى جانب التراجع النسبي لدور الأعيان، لتصنع انقلاباً في الوضع السياسي الفلسطيني. فبعد أن كانت سمة هذا الوضع قبل النكبة هي التنافس والصراع الداخلي في صفوف الأعيان، غدت الأيديولوجيا هي المحدد الرئيس للسياسة. لم يأتِ هذا المتغير بشكل مفاجئ بالطبع، ذلك أن معظم التيارات الأيديولوجية التي برزت في الخمسينات تعود في جذورها إلى العقد السابق. إلا أن النمو المتسارع للاتجاهات الأيديولوجية الفلسطينية، بما في ذلك الإخوان المسلمون وحزب التحرير، إضافة لحزب البعث والحزب الشيوعي، لم يكن ممكناً بدون زلزال النكبة الكبير. وسرعان ما أصبح واضحاً ـ على أية حال ـ أن حركة الإخوان المسلمين ستشكل الممثل الرئيس للتوجهات الإسلامية الأيديولوجية في فلسطين، سواء في الضفة الغربية منها أو في قطاع غزة والمهجر.
حرص الإخوان المسلمون في فلسطين إبان مرحلة التأسيس، في منتصف الأربعينات، على جذب عناصر من الوجهاء ومن العلماء ذوي المكانة إلى صفوفهم، معتمدين بذلك نهجاً اتبعه المرشد المؤسس حسن البنا في مصر. وقد شكل هؤلاء جل القيادة الإخوانية الفلسطينية، في حين كانت الأغلبية العظمى من كوادر الجماعة وعناصرها تنتمي لفئات اجتماعية وسطى أو لأبناء اللاجئين. ورغم أن جماعة الإخوان المسلمين في غزة، كما في الضفة الغربية والأردن، كانت تعتبر في مطلع الخمسينات جماعة حديثة التكوين، إلا أن الوضع الاجتماعي لقيادتها جعلها قوة أقرب إلى المحافظة في رؤيتها السياسية، وأدى إلى إحداث درجة من التوتر الداخلي بين توجهات القيادة وطموحات قطاعات من الجسم التنظيمي. لم تكن هذه الظواهر واضحة تماماً في مطلع الأمر، ذلك أن الإخوان المسلمين برزوا بعد 1948 في الساحة الفلسطينية باعتبارهم قوة مجاهدة ذات دور مميز في الدفاع عن الحق الفلسطيني والذود عنه. وقد حظيت الجماعة بنمو وانتشار سريع أكده وزنها السياسي وثقلها الفلسطيني الشعبي في السنوات القليلة التي تلت حدث النكبة. إلا أن السياق السياسي للإخوان المسلمين في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة اختلفا بعد ذلك إلى حد كبير.
حافظ الأخوان المسلمون في الأردن على علاقة حسنة بالحكم مما ساعدهم على تجنب الصدمات والإحباطات السياسية التي عانت منها فروع الإخوان في الدول العربية المختلفة. لم يمنع هذا الوضع الإخوان المسلمين من العمل الاجتماعي والتربوي، ولم يمنعهم من النضال السياسي من أجل تسليح القرى الحدودية وتشكيل قوات الحرس الوطني لحماية البلاد من الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. ولكن الصورة الغالبة التي عكستها الجماعة كانت صورة بالغة المحافظة، صورة الجمعية التي لم ترغب تماماً في العمل السياسي رغم خوضها الانتخابات البرلمانية، وصورة القوة الاجتماعية التي لم يتطابق خطابها وسلوكها السياسي دائماً. وربما كانت هذه الصورة هي التي قدمت للشيخ تقي الدين النبهاني المبرر ـ إن كان احتاج فعلاً لمثل هذا المبرر ـ لتأسيس حزب التحرير الإسلامي بموازاة الإخوان.
خطت الجماعة بالمثل خطوات واسعة نحو توكيد وضعها في قطاع غزة، بعد تأسيس شعبة الإخوان في غزة أثناء حرب 1948. ولم يجد الإخوان في القطاع موقفاً ودياً من الإدارة المصرية خلال سنوات حكم النقراشي وعبد الهادي، واضطروا بعد قرار حل الجماعة في مصر الذي أعقب اغتيال النقراشي أن يعملوا في غزة تحت اسم جمعية التوحيد. ولكن قيام الثورة المصرية واستيلاء الضباط الأحرار على السلطة في 1952، أتاح للإخوان فرصة متوقعة للتوسع والانتشار. كان عدد كبير من ضباط الثورة قد شاركوا الإخوان آلام المعارك والهزيمة في 1948، كما ارتبط بعضهم تنظيمياً بالجماعة، في حين احتفظ عدد آخر منهم بتعاطف معها، مما أعطى الانطباع في الشهور الأولى للثورة المصرية أن نظامها هو بالفعل نظام إخواني. وقد انعكس هذا الوضع على العلاقة بين الجماعة والإدارة المصرية في قطاع غزة بشكل واضح. ولعل أهم مظهر للارتباط بين الإخوان والحكم المصري الجديد أن أعطيت رئاسة بلدية غزة (التي كانت تقليدياً محصورة في عائلة الشوا) للشيخ عمر صوان، أمين عام شعبة الإخوان في المدينة. كما تحكم الإخوان المسلمون الفلسطينيون في توزيع المساعدات العينية التي أصبحت تصل القطاع بشكل منتظم من مصر، في حين أصبح وجود كبار رجال الإدارة المصرية في احتفالات الإخوان وتجمعاتهم أمراً طبيعياً للغاية. مثّل الشيوعيون المنافس السياسي الوحيد للإخوان في القطاع، إلا أن مواقف الشيوعيين المضطربة أثناء حرب 1948، وعدم اتخاذهم موقفاً قاطعاً من المشروع الصهيوني جعلهم غير أهل لتشكيل تحدٍ جدي للإخوان. ولم يتحول الشيوعيون إلى مصدر إزعاج سياسي للإخوان إلا بعد صدام الحركة مع حكومة الثورة في 1954.
بيد أن الازدهار والتوسع الذي رافق الإخوان المسلمين في قطاع غزة في سنوات الخمسينات الأولى سرعان ما تعرض لانتكاسة كبرى ستترك آثاراً بعيدة الأمد. كانت الجماعة في القطاع مرتبطة تنظيمياً وفكرياً بالجماعة الأم في مصر، وكانت بالتالي عرضة لتقلبات وضع الجماعة الأم. ولذا، فما أن وقعت القطيعة بين حكومة عبد الناصر والإخوان في 1954، حتى تعرضت الجماعة في غزة لمثل البطش الذي تعرضت له في مصر من حل واعتقال ومطاردة، وانتهت بذلك مرحلة العمل الإخواني العلني القصيرة في القطاع. ولكن أزمة 1954 وإن نقلت الإخوان إلى العمل السري، بكل الضغوط والآثار السلبية التي ترافقه، لم تكن قاضية على أية حال. تعرض القطاع في أغسطس/ آب 1954 وفبراير/ شباط من العام التالي لغارتين إسرائيليتين دمويتين، أوقعتا خسائر جسيمة بالقوات المصرية والمدنيين على السواء. وجاءت الغارتان في سياق نشاط فدائي فلسطيني محلي، وفي سياق عربي ودولي نشطت فيه السياسة المصرية ضد مشاريع الأحلاف الغربية في المنطقة، كما جاءت في وقت تكثفت فيه الجهود الدولية لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين والعمل لتصفية القضية الفلسطينية. وقد اندلعت مظاهرات حاشدة في القطاع ضد الغارات الإسرائيلية وضد مشاريع التوطين معاً في مارس/ آذار 1955، لعب الإخوان المسلمون فيها، إلى جانب الشيوعيين وخلايا البعث الأولى، دوراً بارزاً. وربما كانت المظاهرات إحدى أهم الأسباب التي أدت لإسقاط مشروع التوطين بعد أن أدركت القاهرة حجم المعارضة الشعبية الفلسطينية له. استمرت الصحوة الإخوانية بعد مظاهرات 1955، حيث شارك الإخوان بدور ملحوظ في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي للقطاع أثناء العدوان الثلاثي (أكتوبر/ تشرين الأول 1956 إلى مارس/ آذار 1957)، وفي مقاومة قرار الأمم المتحدة فرض سيطرة دولية على القطاع بعد الانسحاب الإسرائيلي. إلا أن الاحتقان في العلاقة بين الإخوان والإدارة المصرية للقطاع عاد لما كان عليه قبل العدوان بعد الانسحاب الإسرائيلي. إلا أن الاحتقان في العلاقة بين الإخوان والإدارة المصرية للقطاع عاد لما كان عليه قبل العدوان الثلاثي نظراً لأن الحكومة المصرية في القاهرة كانت قد حسمت أمرها في اعتبار الإخوان المسلمين عدواً داخلياً استراتيجياً. وهكذا خسر الإخوان موقعهم المميز في القطاع، مخلين الطريق لجناح حزب البعث في قطاع غزة ليقوم بدور «حزب السلطة»، إلى أن احتل القوميون العرب هذا الدور في نهاية الخمسينات. من ناحية أخرى، بدأ جسم الإخوان التنظيمي في التعرض لنزيف مستمر في عناصره الشابة والمتعلمة التي سعى الكثير منها إلى الهجرة للسعودية وسائر دول الجزيرة العربية الأخرى، هرباً من الاضطهاد الناصري أو بحثاً عن لقمة العيش. وسط تلك الظروف، ظروف العمل السري والتراجع أمام الهجوم الناصري، واجه الإخوان المسلمون الفلسطينيون أكبر تحد سياسي لهم على الإطلاق، تحد سيفوق الهجوم الرسمي المصري ومنافسة البعث والقوميين العرب معاً، تحدي قيام حركة فتح.
يستدل من الصورة غير الكاملة دائماً التي يرسمها عبدالله أبو عزة لأوضاع الإخوان المسلمين في قطاع غزة أن عناصر إخوانية شابة مسلحة، بقيادة خليل الوزير، قد نفذت بعض الهجمات الفدائية على أهداف إسرائيلية في سنوات الخمسينات الأولى. ولكن المرجح أن هذه العمليات لم تكن جزء من سياسة إخوانية عامة، وأنها لم تستمر طويلاً، خاصة بعد أن غادر خليل الوزير غزة إلى مصر للدراسة الجامعية قبل العدوان الثلاثي. عاد الوزير في صيف 1957 ليطرح على زملائه في القطاع فكرة بالغة الجرأة تتلخص في أن يقوم الإخوان بإنشاء جماعة سياسية لا تحمل اسمهم تجعل من تحرير فلسطين هدفها الأساسي باعتماد وسائل العمل الفدائي. وأشار الوزير في مذكرته التي قدمها لقيادة الإخوان في القطاع إلى الحصار الذي يواجهه الإخوان، وإلى أن قيام جماعة تحمل اسماً جديداً قد يحقق التخلص من هذا الحصار من ناحية، كما سيساعد في تركيز هذه الجماعة على هدف تحرير فلسطين وعلى جذب أكبر قطاع فلسطيني ممكن إلى إطارها. ولم يخفِ الوزير في مذكرته أن على الجماعة السياسية الجديدة أن تتحلى بمرونة أيديولوجية ـ بتخليها عن الإطار الأيديولوجي للإخوان ـ من أجل تحقيق أهدافها. عكست مذكرة الوزير وطأة الهجمة التي كان يتعرض لها الإخوان المسلمون في مصر الخمسينات وفي مناطق النفوذ الناصري المتصاعد في العالم العربي، كما عكست تأثراً واضحاً بتجربة جبهة التحرير الوطني الجزائرية التي قامت من خلال التقاء سياسي جزائري على هدف التحرير وليس على أساس أيديولوجي.
لم يستدع اقتراح خليل الوزير اهتماماً أو دراسة واسعة داخل الجماعة ولا يبدو أنه كان ينتظر مثل هذا الاهتمام أو الدراسة. إن معظم الدلائل تشير إلى أن الاجتماع التأسيسي لحركة فتح قد تم في 1958 أي بعد عام على تقديم مذكرة الوزير للإخوان بغزة، وهو ما يعني أن فكرة فتح كانت قيد التداول بين عناصر إخوانية فلسطينية، وأخرى على هامش الإخوان، قبل تقديمها للجماعة، وأن أصحاب الفكرة كانوا قد عقدوا العزم بغض النظر عن الموقف الإخواني الرسمي منهم. رفض الإخوان المشروع، ولكن موقفاً تفصيلياً ودقيقاً منه لم يطرح داخل الجماعة حتى 1960، بعد أن بدأ التنظيم الإخواني في خسارة أعداد متزايدة من عناصره لصالح التنظيم الجديد، تنظيم حركة فتح.
لم تعلن مجموعة فتح في أكثر أكثريتها خروجها من الإخوان المسلمين، واستغلت المسافة الغائمة بينها وبين باقي التنظيم الإخواني في طرح منطقها الوطني البسيط والمباشر وفي جذب مزيد من العناصر الإخوانية لصفوفها. وحيث أن الوضع التنظيمي الإخواني الفلسطيني كان مازال يعاني من اضطرابات تجربة العمل السري المفاجئة ومن غياب إطار مركزي جامع للإخوان المسلمين الفلسطينيين فقد كان من الصعب محاصرة الجهود الفتحاوية الحثيثة. وهكذا تحت الضغوط المتزايدة من جماعة فتح، عقدت مجموعة من النشطين الفلسطينيين الإخوان لقاء في القاهرة في صيف عام 1960 ضم ممثلين عن التجمعات الإخوانية الفلسطينية في قطاع غزة وسوريا ودول الهجرة العربية، تأسس على أثره تنظيماً فلسطينياً إخوانياً موحداً. ومن المفارقة أن أولى مهام التنظيم الجديد كانت تحديد موقف واضح من مجموعة فتح ووضع حد فاصل بينها وبين الإخوان، وهذا ما حدث بالفعل خلال الشهور القليلة التالية. المشكلة بالطبع أن فتح ستبرز خلال سنوات قليلة لتقود المشروع الوطني الفلسطيني كله. بيد أن الفصل بين الطرفين ـ على أية حال ـ لم ينجح في وضع نهاية للتوتر بينهما، بل إن هذا التوتر ازداد حدة في بعض مناطق المهجر (مثل قَطَر)، خاصة أن بعض القيادات التنظيمية الإخوانية العربية مثل عصام العطار وبعض المهجرين من الإخوان المصريين حافظت على علاقات حسنة مع قيادات فتح.
الانفراج
شكلت هزيمة عام 1967 فاصلاً جديداً في الوضع العربي والإسلامي، في اتجاهات الفكر وفي العلاقات السياسية على السواء. إذ أدت إلى إحداث شرخ عميق في جدار شرعية النظام العربي الرسمي بعد أن فشلت دولة ما بعد الحرب العالمية الثانية ونظامها الإقليمي في رد ما كانت تراه الأمة العربية تحدياً لوجودها. لم تعد الدولة العربية بالتالي قادرة على مواصلة كبح الحركة الجماهيرية التي بدا وكأنها توشك الانطلاق من عقالها. وقد كانت فتح رغم حجمها السياسي والعسكري الصغير آنذاك هي القوة الوحيدة القادرة على أخذ زمام المبادرة التي أتاحتها ظروف الهزيمة، مما ساعدها على التحول إلى قوة سياسية شعبية كبرى خلال السنوات القليلة التي تلت يونيو/ حزيران 1967. وفي مقابل الصعود الفتحاوي البارز والسريع اتسمت ردود فعل الإسلاميين تجاه الهزيمة، بارتباك سياسي وفكري فادح. كان حزب التحرير قد شكل مقوماته الفكرية الرئيسية في العقد السابق على الهزيمة ولأن هذه المقولات افتقدت الحس التاريخي وتجللت بالإطلاقية والانغلاق، فإن الهزيمة بدت للحزب وكأنها حادث عارض لا يستدعي إعادة النظر في برامج الحزب ونهجه السياسي. على أن موقف الإخوان المسلمين كان أكثر تعقيداً فقد أصبح التنظيم الفلسطيني للإخوان المسلمين عضواً في المكتب التنفيذي للإخوان المسلمين منذ عام 1966. ولأن المكتب التنفيذي مثّل ما يشبه مكتب التنسيق لكافة الإخوان العرب في تلك المرحلة، فإن عضوية التنظيم الفلسطيني فيه تعني أن الأخير قد احتل موقعه إلى جانب وبالمساواة مع كافة التنظيمات العربية الإخوانية الأخرى، بالرغم من حداثة نشأة التنظيم الفلسطيني. كانت الهزيمة حدثاً عربياً وإسلامياً بنفس المستوى الذي كانت فيه حدثاً فلسطينياً، وقد استدعت بالتالي استجابة على المستوى الإخواني بأجمعه وليس على المستوى الفلسطيني فحسب.
فلسطينياً، كان التنظيم الفلسطيني الإخواني في قطاع غزة عشية هزيمة يونيو/ حزيران قد وصل إلى وضع لا يحسد عليه بعد أن تناقصت عضويته إلى عدد صغير من العناصر، معظمهم من المدرسين الذين لم يكونوا يقومون بأي نشاط يذكر. جاءت الهزيمة بعد عامين على الضربة الرئيسية الثانية التي تلقتها الجماعة على يد النظام الناصري في صيف 1965 والتي خسر الإخوان الفلسطينيون على أثرها أحد أبرز قياداتهم في القطاع، الشيخ هاني بسيسو، الذي توفي أثناء فترة اعتقاله في القاهرة. وفي ظل تلك الأجواء السياسية الضاغطة، افتقد إخوان القطاع صلات منظمة ومباشرة ببقية التنظيم الفلسطيني وقيادته التي كان أعضاؤها في معظمهم من المقيمين في دول الخليج والسعودية.
عادت فتح إلى نشاطها العسكري في الشهور القليلة التالية للهزيمة، وبعد معركة الكرامة في مارس/ آذار عام 1968 أكدت فتح وجودها السياسي والعسكري باعتباره أمراً واقعاً فرضه التفاف جماهيري فلسطيني وعربي لا مثيل له حولها. وسواء داخل فلسطين المحتلة، في دول الجوار أو في المهجر الفلسطيني بشكل عام، فقد أصبحت فتح هي الناظم الرئيسي للجماهير الفلسطينية ومحط أنظار العرب. وقد تأكد هذا الوضع بعد أن سيطرت فتح على مقاليد منظمة التحرير الفلسطينية في عام 1969. كان على الإخوان المسلمين بالتالي، خاصة في دول الجوار الفلسطيني، أن يواجهوا وضعاً غير مسبوق في تجربتهم السياسية وضعاً كانت الدولة العربية فيه لم تزل قائمة، غير أنها فقدت جزءاً ملحوظاً من سلطتها ونفوذها، وضعاً كانت القوى الجماهيرية فيه تخوض الصراع ضد الكيان الصهيوني بشكل مباشر ضمن أطر وعلى أساس برنامج لا علاقة للإخوان بها. وقد بدا لبعض التنظيمات الإخوانية العربية، خاصة التنظيم الأردني، أن على الجماعة أن تخوض غمار العمل الفدائي أو تفقد وجودها. لم يكن لدى الإخوان المسلمين لا قبل الهزيمة ولا بعدها برنامجاً واضحاً لمواجهة الهجمة الصهيونية، أو لعمل على المستوى الفلسطيني يتعدى طرق النشاط الإخواني التقليدية، وهو ما أظهر التوجهات الأردنية الجديدة نحو العمل الفدائي وكأنها تعبير عن ردود فعل أكثر من كونها مبادرة أصيلة متكاملة. على أن الموقف الإخواني الفلسطيني تجاه فتح وتجاه الاقتراحات الأردنية الجديدة معاً كان بالغ السلبية. شهد الإخوان الفلسطينيون متغيرات ما بعد الهزيمة مثقلين بعبء سنوات الصراع والتوتر الطويلة بنهم وبين زملائهم السابقين قادة وكوادر حركة فتح. وقد انعكس عبء هذه السنوات سلباً على موقف الإخوان من صعود فتح المفاجئ والسريع ومن كل الظاهرة الوطنية الفلسطينية. ولعل هذا الموقف كان السبب الرئيسي وراء المفارقة الغريبة التي شهدها الوضع العربي الإسلامي في نهاية الستينات، فقد ابتعد الفلسطينيون الإسلاميون بشكل عام عن كل ما يتعلق بساحة النضال الفلسطيني فيما تبنى الإخوان المسلمون في الأردن مشروع المشاركة في العمل الفدائي إلى جانب حركة فتح وتحت خطتها. وقد جذبت المشاركة الأردنية من وقت لآخر، العديد من العناصر الإسلامية العربية إلى معسكراتها، بيد أن التجربة لم تستمر طويلاً على أية حال. إذ أن الإخوان الأردنيون سرعان ما رأوا نذر المواجهة بين الفدائيين الفلسطينيين والحكم الأردني، فانسحبوا من الساحة بمثل الهدوء الذي دخلوا فيه. ولعل غياب البرنامج وسيطرة سياسات ردود الفعل والارتباك الاستراتيجي قد تركت الإخوان بدون تحقيق إنجاز جماهيري يذكر من تجربة المشاركة في العمل الفدائي، وبدون مراجعة حقيقية للموقف الإسلامي تجاه فلسطين بشكل عام.
إن المسألة التي لا يبدو أن قيادة التنظيم الإخواني الفلسطيني ـ ناهيك عن المكتب التنفيذي ـ كانت تدركها آنذاك، أن الالتفاف الجماهيري الكبير حول فتح والعمل الفدائي، لم يغلق الأبواب تماماً أمام العمل الإسلامي في فلسطين. على العكس، ففي الوقت الذي بدا فيه العمل الفدائي وكأنه استرد الكرامة المجروحة للأمة العربية، كانت قطاعات عربية متزايدة تبلور ردودها على الهزيمة ضمن محاولة لاستلهام الهوية العقدية والتاريخية. لم تعط القيادة الإخوانية الفلسطينية، ولا شقيقتها في الأردن، كبير اهتمام للوضع الإسلامي في قطاع غزة والضفة الغربية خلال السنوات القليلة التي تلت هزيمة عام 1967، بالرغم من أن الوضع الإخواني، خاصة في قطاع غزة، كان يشهد بدايات انتعاش وتوسع تنظيمي. كان الظرف الموضوعي الجديد في الأراضي المحتلة هو المسؤول الأول عن هذا التطور، بيد أن التعامل الإيجابي مع الظرف الموضوعي ما كان له أن يتجلى بدون الدور الهام الذي لعبه أحمد ياسين (ولد 1936)، أحد أبناء الجيل الإخواني الوسيط في غزة.
ينتمي أحمد ياسين لعائلة فلسطينية فقيرة لجأت إلى مدينة غزة من قرية الجورة الساحلية بعد 1948، وقد أصيب بالشلل النصفي منذ مرحلة مبكرة في شبابه. ولكن المرض لم يمنع ياسين، الذي كان يعمل مدرساً ابتدائياً، من أن يستأنف بعد هزيمة 1967 مسيرة العمل الإسلامي في القطاع. وجد أحمد ياسين تربة خصبة في طلاب المدارس الثانوية والإعدادية الذين أقبلوا بشكل ملحوظ على الحلقات الإخوانية التي بدأت بالظهور في مختلف مساجد القطاع. وتشكلت هذه الحلقات في بعض الأحيان بمبادرة إخوانية، وفي أحيان أخرى بمبادرات ذاتية من عناصر شابة كانت تبحث في الإسلام عن إجابات للأسئلة الكبرى التي أصبح على الفلسطينيين أن يواجهوها بعد الهزيمة الفادحة. كان فتحي الشقاقي (1951 ـ 1995) وعبد العزيز عبد الرحمن عودة، الذي فصل من الإخوان لاحقاً، ثم افترق عن الشقاقي أيضاً، (ولد 1950)، من أوائل الطلاب الشباب الذين انتموا للإخوان في تلك المرحلة.
وإذ استمر تدفق الطلاب الفلسطينيين على مصر حتى نهاية السبعينات، تحول الوضع الإخواني الفلسطيني في مصر تدريجياً إلى موقع تنظيمي بالغ الأهمية. تراخت قبضة الدولة المصرية على البلاد بشكل نسبي منذ ما بعد حرب أكتوبر/ تشرين أول 1973، وبدت أجواء مصر السياسية والفكرية أكثر ليبرالية مما كانت عليه في أية مرحلة سابقة منذ 1954. وقد ساعدت أجواء الحرية النسبية تلك، إلى جانب إطلاق سراح آلاف الإخوان المعتقلين، على إعادة الحيوية لمصر الإسلامية، وهو الأمر الذي أرخى بظلاله على التنظيم الإخواني الفلسطيني أيضاً.
كان فتحي الشقاقي الذي لجأت عائلته لمدينة رفح من قرية زرنوقة، إخوانياً فلسطينياً من طراز مختلف. قبل 1967 كان الشقاقي، كمعظم الشبان الفلسطينيين من أبناء جيله، ناصري الميول، ولكن آماله في عبد الناصر انهارت جميعاً ومرة واحدة بعد الهزيمة. وقد مال الشقاقي رغم إيمانه الإسلامي العميق، للثقافة الحديثة ومصادرها، شعراً كانت أو نثراً، وساعد على تنمية هذه الثقافة، انتقاله لكلية بيرزيت المتوسطة (قبل تحولها لجامعة) في نهاية الستينات. لم تكن الخطابة إحدى مواهب فتحي الشقاقي المميزة، ولكنه في المقابل امتلك مقدرة تنظيمية تلقائية وحساً قيادياً ومثابرة لا مثيل لها بين معظم أبناء جيله. عمل الشقاقي بعد تخرجه من بيرزيت مدرساً للرياضيات في مدينة القدس، وفي 1974 توجه لمدينة الزقازيق المصرية لبدء دراسته الجامعية في كلية الطب. وفي مصر، حيث كانت الأجواء الإسلامية تعيش فترة ازدهار نادرة، سيجد الشقاقي في التنظيم الإخواني الفلسطيني وفي أوساط الطلاب الفلسطينيين مجالاً خصباً للعمل وبث رؤاه التجديدية لمستقبل العمل الإسلامي في فلسطين.
واجهت القيادة الإخوانية في قطاع غزة، وأحمد ياسين بشكل خاص، أسئلة لا تنقطع من أوساط الشبان الإخوان الجدد فيما يتعلق بالموقف الإخواني من مسألة فلسطين والحركة الوطنية الفلسطينية. من الراجح أن أحمد ياسين شخصياً قد حمل تعاطفاً قوياً مع العمل الفدائي، وربما ربطته ببعض المجموعات الفدائية في نهاية الستينات بعض العلاقات، إلا أنه التزم في حواره مع أولئك الشبان الذين التفوا حوله بالموقف الإخواني الفلسطيني الرسمي: إن الجماعة لن تتورط في هذه المرحلة في العمل المسلح ضد الكيان الصهيوني، وأن مستقبل الصراع على فلسطين مرتبط بعملية التحول الإسلامي في المنطقة العربية، وخاصة في دول الجوار. لقد مثلت المسألة الفلسطينية نقطة توتر مبكرة داخل التنظيم الإخواني في فلسطين المحتلة بين جيل الشبان الجدد والجيل السابق لهم الذي احتلت عناصره المواقع القيادية في مرحلة ما بعد 1967. بيد أن جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين المحتلة كانت تحمل خلفها آنذاك تاريخاً طويلاً محلياً وعربياً، تاريخاً غنياً بالرموز التي اجتمع فيها تراث البطولة والتضحية والتقوى بنضالات أجيال من الإخوان. لقد أصبح للجماعة باختصار، رغم سنوات العمل السري الطويلة، مثل أي حزب سياسي عميق الجذور، مؤسسة من الأفكار والتواريخ والرجال، حافظت على أن تبقى نقاط التوتر الداخلية تحت مستوى الانفجار التنظيمي، ولكنها في الوقت نفسه افتقدت الحساسية لديناميات التغيير السياسية والفكرية.
الصعود
ريما يمكن اعتبار النصف الثاني للسبعينات بداية مرحلة جديدة في تطور المسيرة الإسلامية في فلسطين. كانت حرب أكتوبر/ تشرين أول قد أعادت للنظام العربي الرسمي بعض الثقة والاعتبار، في مرحلة وصل إليها النفوذ السوفياتي في المنطقة العربية لأوجه. وقد بدأت منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة فتح ـ التي اعتبرت حليفاً للسوفيات ـ في التحول إلى جزء من النظام العربي، وفي السعي للانتماء إلى الأسرة الدولية. إن تورط منظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، وتبنيها لمشروع السلطة الوطنية مثلاً في جوهرهما تطورين بارزين في مسيرة التحول تلك التي أدت إلى أن تخسر المنظمة خلالها جزء كبير من شرعية وسحر الثورة اللذين رافقا صعود العمل الفدائي في الستينات. كان توجه النضال الوطني الفلسطيني أساساً نحو الصراع ضد الكيان الصهيوني، وكان برنامجه يعكس الطموح الوطني الفلسطيني والعربي ـ الإسلامي في تحقيق تحرير فلسطين من النهر إلى البحر. ولكن هذا التوجه وهذا البرنامج سيشهدان تراجعات بالغة منذ منتصف السبعينات. وقد أدت هذه التراجعات في رؤية وسياسات المشروع الوطني الفلسطيني إلى تراجع في مستوى التحدي الذي شكلته فتح للقوى الإسلامية في فلسطين. ولكن هذا التطور لم يكن له أن يضع حداً للتساؤلات المتزايدة داخل صفوف الشبان الإسلاميين الجدد في فلسطين، بل كان على الأرجح سبباً في تصاعد حدة هذه التساؤلات. وقد شهد التنظيم الإخواني الفلسطيني في مصر أهم حلقات الحوار حول وجهة حركة الإخوان المسلمين وموقع فلسطين في رؤيتها الاستراتيجية.
تواجدت في مصر في وقت واحد مجموعة مميزة من الطلاب الجامعيين الفلسطينيين الإسلاميين، سيبرز من بينهم فيما بعد قادة للحركة الإسلامية في فلسطين، وكوادر نشطة، وسيكون منهم شهداء وأسرى ومناضلين على مستوى رفيع من التضحية. رأى أولئك الشبان، الذين كان معظمهم في العشرينات من العمر مداً إسلامياً متزايداً حولهم ورأوا القوى الوطنية الفلسطينية تتراجع عن الثوابت التاريخية للأمة، وأدركوا، وإن كان بشكل غير واضح تماماً في البداية، أن موقع الإسلاميين الطبيعي هو الالتحام بالقضية الفلسطينية، وإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس من الإسلام.
ثمة عاملان رئيسيان لعبا أكبر الدور في إطلاق الحوار حول فلسطين في تلك المرحلة. يتعلق العامل الأول بالإحساس المتزايد في أوساط الشبان الإسلاميين الفلسطينيين بغياب الدور الإسلامي الفلسطيني، الغياب بمعناه الاستراتيجي. إن حركة الإخوان المسلمين، بالرغم من إيمانها العميق بوحدة الأمة، قد اعترفت ضمناً بحدود دولة التجزئة العربية وتصرفت سياسياً على أساس من ذلك. كان واضحاً في منتصف السبعينات أن فروع الحركة الإخوانية في مختلف الدول العربية تعمل من أجل إنجاز التحول نحو الإسلام في بلدانها، كل على حدة، فيما كان الفرع الفلسطيني مازال ملتزماً بالتطورات التي صاغها لمهماته في مطلع الستينات. لم يكن مطروحاً بالنسبة للإسلاميين الفلسطينيين أن يصبحوا جزءاً من مشاريع العمل الإسلامي في البلدان العربية، وكان عليهم انتظار التحول الإسلامي في هذه البلدان قبل أن يتصدوا لمهمات الصراع الدائر في فلسطين. كان التنظيم الفلسطيني باختصار تنظيماً بلا دور، أو تنظيماً في حالة انتظار.
ويتعلق العامل الثاني بالاختلاف الواسع في الخلفية الثقافية والفكرية، إضافة لاختلاف المؤثرات السياسية والاجتماعية، بين جيلين كاملين من الإخوان المسلمين الفلسطينيين. لقد التفت حول فتحي الشقاقي بعد فترة قصيرة من وصوله من مصر، مجموعة من الشبان الإسلاميين الفلسطينيين من داخل وخارج تنظيم الإخوان المسلمين. بالنسبة لهذه المجموعة، لم تعد الكتابات الإخوانية الكلاسيكية التي أنتج معظمها في الأربعينات والخمسينات، كتابات حسن البنا، سيد قطب ومحمد قطب، محمد الغزالي وفتحي يكن، لم تعد كافية لصياغة رؤية إسلامية للعالم ولا للإجابة على الأسئلة الأساسية المتعلقة بالإسلام والعصر، أو المتعلقة بالإسلام وفلسطين. لم تكن الأزمة الفكرية التي واجهها هؤلاء الشبان تتعلق فقط بِفقر هذه الكتابات النسبي، بتكرار مقولاتها وعدم ارتقائها لمستوى القدسية الضمنية التي أحاطها بها التنظيم، بل أيضاً بافتراق خطابها عن الزمان وعجزها عن حمل دلالاته. وبالرغم من أن فتحي الشقاقي والمجموعة الملتفة حوله مثلت أقوى الأصوات تمرداً، إلا أن الإحساس بالأزمة كان شاملاً، ليس داخل التنظيم الإخواني الفلسطيني في مصر فحسب، بل أيضاً وبأشكال مختلفة في الكويت، وبريطانيا والولايات المتحدة، وحيثما تواجدت الكتل الطلابية الجامعية الإخوانية الفلسطينية. وفي كل الحالات، لم يكن الميراث النضالي لحركة الإخوان المسلمين محل نقاش، ولا كان الحوار متعلقاً بدور الجماعة التاريخي أو مبررات وجودها واستمرارها (كما كان الأمر في حالة مؤسسي فتح)، بل كان أساساً حول تجديد برامجها ورؤاها وفاعلية دورها في اللحظة المعاصرة. كان فتحي الشقاقي ـ على سبيل المثال ـ وربما حتى اللحظة الأخيرة من حياته بالغ التأثر بحسن البنا، برؤيته الثاقبة لعصره وبمثابرته وبالإنجاز الكبير الذي حققه باعتباره أبرز المناضلين الإسلاميين في نصف القرن العشرين الأول. بيد أن الشقاقي كان قد بدأ يدرك أيضاً أن الأسئلة المطروحة أمام جيله قد اختلفت عن تلك التي واجهها حسن البنا.
وفي رحلة البحث القلقة، كانت دراسة التاريخ هي التي زودت أولئك الشبان المسلمين بأكثر أدوات الوعي فعالية لزمانهم ولإشكالياته ودلالاته على السواء. ولعل المصادر الأولى التي تركت أكبر الأثر على تكوينهم الفكري كانت تلك التي أنتجها مؤرخون عرب ـ وغير عرب ـ من المتخصصين في دراسات الشرق الأوسط في الجامعات البريطانية والأمريكية، في مرحلة ما بعد الاستشراق التقليدي. ويمكن أن يذكر بشكل خاص بين تلك المصادر ما ترجم إلى العربية من أعمال ألبرت جوراني، هشام شرابي، مجيد خدوري. ولكن العمل الذي سيشار إليه دائماً بعد ذلك باعتباره الرافعة الفكرية التي دفعت بالحوار إلى مستوى جديد، كان كتيباً صغيراً بعنوان «ما بعد النكبتين»، حمل تأملات شاب سوري مسلم، كان يقرأ الفلسفة في ألمانيا في نهاية الستينات ـ حول الهزيمة العربية في 1967 وسقوط بيت المقدس. إن تعبير «القضية الفلسطينية قضية مركزية للحركة الإسلامية»، الذي سيصبح فيما بعد عنواناً لرؤية إسلامية جديدة قد استلهم بشكل خاص من كتيب توفيق الطيب الهام: ما بعد النكبتين. وهكذا ومع نهاية السبعينات بدا وكأن فتحي الشقاقي ومجموعة الشبان الإسلاميين الفلسطينيين الملتفين حوله قد امتلكوا ما يمكن أن يعتبر أداة تحليل.
استبطنت رؤية أولئك الشبان لتحولات التاريخ الإسلامي الحديث، وتحولات المنطقة العربية ـ العثمانية بشكل خاص، من حيث لا يدرون، موضوعة الاستجابة غير الكافية للتحدي الحضاري التي روج لها أرنولد توينبي في موسوعته الشهيرة في دراسة التاريخ. واجه عالم الإسلام ـ طبقاً لتلك الرؤية ـ التحدي الغربي الحديث في القرن التاسع عشر في مرحلة كان المسلمون قد استنفذوا فيها طاقات صعودهم الحضاري. وإذ عانى عالم الإسلام من سلسلة متواصلة من الهزائم أمام قوى التوسع الاستعماري الغربي، عجز العقل الإسلامي عن إبداع تصوراته الخاصة والذاتية للتجديد. ولذا فقد ارتكزت محاولات التجديد الإسلامي منذ بدايات القرن التاسع عشر على أسس من تصورات وأنظمة غربية، اختلطت فيها قيم الغرب الأخلاقية والفلسفية بأدوات تفوقه المادي والمدني. كانت النتيجة عملية تغريب مستمرة لحياة المسلمين ومجتمعاتهم، اتسعت أبعادها وازدادت عمقاً بعد وقوع معظم بلاد الإسلام تحت سيطرة الاستعمار الغربي، السيطرة التي استمرت بعد رحيل القوات الأجنبية وإنجاز الاستقلال الوطني. إن التجزئة والتبعية الاقتصادية والثقافية، وإعادة صياغة الاجتماع الإسلامي على أسس غربية، قد جعلت عملية السيطرة في المرحلة الجديدة أكثر تعقيداً وتركيباً. بيد أن الركيزة الرئيسية لاستمرار السيطرة والتبعية والتجزئة في منطقة القلب من العالم الإسلامي تمثلت بإقامة دولة الكيان الصهيوني. عكس المشروع الصهيوني منذ بداياته أبعاداً دينية يهودية وأبعاداً قومية أوروبية، ولكن أخطر تجلياته على الإطلاق، من وجهة نظر اختلال التوازن بين الإسلام والغرب، أنه مثل ومازال الحلقة المركزية في التحدي الغربي. وإن كان مبرر وجود الحركة الإسلامية المعاصرة هو استئناف الدور الحضاري للإسلام، بمعنى الاستجابة المتكافئة للتحدي الغربي، فإن المشروع الإسلامي غير ممكن التحقق بدون التصدي لدولة الكيان الصهيوني. فلسطين لابد أن تكون بالتالي في المركز من قضايا الحركة الإسلامية المعاصرة. ويحمل طرح هذا الشعار دعوة ضمنية لدور نضالي إسلامي في الساحة الفلسطينية. وربما كانت التبعات العملية لهذا الطرح، وليس جوهر التحليل الذي أدى إليه، هي التي ولدت المعارضة الإخوانية الرسمية في مطلع الأمر. فقد بدا للقيادة الإخوانية أن فتحي الشقاقي وزملائه بدفعون الحركة إلى مغامرة غير محسوبة، وإلى توريطها في صراعات عربية هي في غنى عنها، خاصة وأن حركة الإخوان المسلمين كانت تتماثل لاسترداد عافيتها بعد سنوات طويلة من المطاردة والملاحقة في عدة دول عربية.
في فبراير/ شباط 1979، وبعد عام كامل من الثورة الشعبية سقط نظام الشاه في إيران وقامت الجمهورية الإسلامية. كان حدث الانتصار الإسلامي صاعقاً على المستوى العالمي ككل لما دلل عليه من حيوية الإسلام وقدرته على الصعود من جديد بعد زهاء قرن من غياب دوره السياسي الدولي. كما استقبل الحدث بابتهاج وتأييد واسع في الأوساط العربي ـ الإسلامية، بما في ذلك أوساط الإخوان المسلمين. وقد قام فتحي الشقاقي الذي كان مازال طالباً في كلية الطب، بنشر كتيب صغير حول الثورة الإسلامية في إيران والأبعاد التاريخية لها، ظهر في أسواق القاهرة في ذات أسبوع انتصار الثورة. ولعل توقيت ظهور هذا الكتيب، أكثر من أهمية محتواه، هو الذي أتاح انتشاره الواسع وبروز اسم الشقاقي في الأوساط الإسلامية داخل مصر، إضافة إلى جلبه لاهتمام دوائر الأمن المصرية. بعد شهور قليلة من نشر هذا الكتيب ونظراً لاتساع تأثير دور فتحي الشقاقي في أوساط الطلاب الإسلاميين داخل الجامعة، سارعت مباحث أمن الدولة المصرية إلى إلقاء القبض عليه. ولم يفرج عنه إلا في نهايات 1979، بعد ضغوط وتدخلات حثيثة لدى الدوائر الرسمية المصرية الأمنية وغير الأمنية. على أن فتحي الشقاقي وجد نفسه فجأة بعد خروجه من المعتقل، أمام قرار بفصله من صفوف الإخوان الفلسطينيين. رسمياً، أخذ قرار فصل الشقاقي من الحركة لأن نشاطاته الواسعة واعتقاله قد أصبحت تشكل مصدر تهديد أمني للإخوان المسلمين الفلسطينيين في مصر. ورغم أن هذا المبرر استند إلى وقائع فعلية إلا أن فتحي الشقاقي كان قد أصبح مصدر إزعاج سياسي وفكري للحركة بغض النظر عن ظروف اعتقاله. إن قرار الفصل ذلك وضع البداية لما سيعرف فيما بعد بحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين. ما لم يكن واضحاً حينها أن التوجه الإسلامي نحو تبني القضية الفلسطينية لم يكن مقصوراً على الوضع الإخواني الفلسطيني في مصر، بل كان في طريقه للتحول إلى ظاهرة عامة داخل صفوف الإخوان المسلمين الفلسطينيين، تماماً كما كانت العودة إلى الإسلام قد أصبحت ظاهرة في أوساط الحركة الوطنية الفلسطينية.
ففي الكويت ـ على سبيل المثال ـ اتسعت نشاطات الطلاب الفلسطينيين الإسلاميين في جامعة الكويت منذ مطلع الثمانينات، حتى برزوا كمنافس هام لكتلة الطلاب الوطنيين. وفي كل من بريطانيا والولايات المتحدة، أقام الطلاب الفلسطينيون الإخوان اتحادات طلابية إسلامية فلسطينية، نشطت في تنظيم مؤتمرات شعبية عامة وفي إصدار نشرات إسلامية فلسطينية سصبح لها أهمية إعلامية كبرى بعد ذلك. إن عدداً كبيراً من الكوادر الإخوانية الشابة التي تلقت دروسها الأولى في العمل السياسي داخل الأوساط الطلابية العربية في الكويت وبريطانيا والولايات المتحدة ستشكل بعد ذلك نواة قيادة حركة حماس ومعظم كادرها خارج فلسطين المحتلة. وفي الوقت ذاته، كانت الثورة الإسلامية في إيران وتراجعات المشروع الوطني الفلسطيني تلقي بظلالها على العديد من القناعات داخل إحدى أبرز مجموعات فتح، مجموعة المناضلين الذين يسترشدون بكتابات منير شفيق المفكر الفلسطيني المعروف. اتسم التوجه الفكري لدى منير شفيق ومعظم الشبان الملتفين حوله في نهاية السبعينات بسمات ماوية عربية، وحيوية نقدية سلحت المجموعة بحساسية بالغة للمتغيرات السياسية من حولهم وباستعداد دائم للتغيير. كانت المسألة المحورية للماركسيين الماويين هي مجموعة من الإشكاليات المتعلقة بنظرية الثورة وقد بدا لهذه المجموعة أن ردود الفعل العربية والإسلامية إزاء انتصار الثورة الإسلامية في إيران قد قدم إجابة حاسمة لسؤال نظرية الثورة في العالم الإسلامي. وفي مطلع الثمانينات قدمت هذه المجموعة للساحة الفلسطينية مناضلين على قدر رفيع من البسالة والالتزام والتضحية هما محمد البحيص (أبو حسن) ومحمد باسم سلطان (حمدي) اللذين ساهما مساهمة بارزة في إطلاق العمل الإسلامي المسلح داخل فلسطين المحتلة في منتصف الثمانينات. بتفاعل هذه القوى، بحواراتها وخلافاتها وتعاونها، أصبحت الساحة السياسية الفلسطينية أكثر استعداداً لبروز التيار الإسلامي كواحد من أهم التيارات الفاعلة إبان سنوات الانتفاضة وما بعدها.
خـاتمـة
لقد واجه عقدا الخمسينات والستينات الاتجاهات الإسلامية الوليدة (الإخوان المسلمين وحزب التحرير) بتحديات كبرى. لقد فقد الشعب الفلسطيني الكثير من ركائزه الاجتماعية والثقافية وموارده الاقتصادية بعد نكبة 1948، وأدت النكبة إلى تهجير مئات الألوف من الفلسطينيين من كافة الفئات الاجتماعية. وقد احتاج الفلسطينيون عدة سنين للخروج من قاع الآثار المدمرة للنكبة. ولم تبد إشارات توسع الاتجاهات السياسية المختلفة، القومية والماركسية والإسلامية إلا في نهاية الخمسينات. على أن انتعاش الحياة السياسية في أوساط الفلسطينيين لم تعد بمردودها على كافة القوى السياسية بشكل متساو. ففي حين استفادت التيارات القومية العربية من البروز الملحوظ لحزب البعث العربي في الحياة السياسية السورية، ومن تبني مصر الناصرية للمشروع القومي العربي وتحول عبد الناصر إلى زعيم عربي شعبي، وجدت التيارات الإسلامية نفسها في الضفة وقطاع غزة في وضع سياسي صعب وغير قادرة على الحفاظ على مواقعها التي كسبتها في نهاية الأربعينات كنتيجة لدورها في الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى. بشكل من الأشكال وجد الإسلاميون الفلسطينيون أنفسهم محاصرين بين أجهزة الأمن العربية من ناحية والالتفاف الشعبي المتزايد حول الحركة القومية ورموزها من ناحية أخرى، خاصة أن الاتجاهات القومية العربية في المشرق كانت آنذاك قد تخلت عن الكثير من موروثها الإسلامي وتبنت رؤية وخطاباً علمانياً إلى حد كبير.
انعكس الظرف السياسي في الخمسينات والستينات بشكل سلبي على خيارات وبرامج الإسلاميين. ففي تراجع واضح عن الأسس الأيديولوجية والتجربة التاريخية لإسلاميي مرحلة ما بين الحربين، انسحب الإخوان المسلمون الفلسطينيون، كما انسحب حزب التحرير، من الساحة السياسية الفلسطينية، إن لم يكن دائماً على مستوى الخطاب فبالتأكيد على مستوى المشاركة الفعلية في الحركة الوطنية. وروّج الإسلاميون الفلسطينيون ابتداءً من منتصف الخمسينات فكرة إعطاء الأولوية للتحول الإسلامي السياسي في دول الجوار الفلسطيني العربية على خوض غمار الصراع مع الكيان الصهيوني أو العمل من أجل ذلك.
ولكن الساحة العربية والسياسية شهدت منذ هزيمة 1967 مجموعة متغيرات هامة ساعدت في فتح مجال أوسع للقوى الإسلامية العربية والفلسطينية. فمن ناحية، تراجعت هيبة ونفوذ الأنظمة العربية القومية العلمانية. ومن ناحية أخرى شكلت الحركة الوطنية الفلسطينية، بقيادة «م.ت.ف»، محفزاً قوياً لولادة التيارات الداعية وسط الإسلاميين الفلسطينيين إلى تبني المشروع الوطني. وما أن أخذ نفوذ ونشاط «م.ت.ف» في الانحسار داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، حتى وجد الإسلاميون الفلسطينيون فرصة تاريخية للتعبير عن أنفسهم في الضفة وقطاع غزة. لقد تضافرت هذه العوامل معاً لتخرج الإسلاميين الفلسطينيين من أزمتهم السياسية والأيديولوجية التي حاصرت وجودهم طوال الخمسينات والستينات.
في منتصف الثمانينات، بادرت المجموعة المسلحة الصغيرة الملتفة حول فتحي الشقاقي والتي ستعرف باسم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين إلى شن هجمات مسلحة متباعدة ضد أهداف أسرائيلية في قطاع غزة. ثم تعززت هذه النشاطات بالدعم البارز الذي قدمه الشهيدان أبو حسن وحمدي لها. كانت فكرة التلاحم بين فلسطين ومستقبل الإسلام في المنطقة العربية قد أخذت تلقي بجذورها في الساحة السياسية الإسلامية الفلسطينية. وساهم هذا التطور، إلى جانب النشاطات العسكرية الإسلامية المناهضة للاحتلال الإسرائيلي، وبالتضافر مع عدة عوامل أخرى، في تفجير الانتفاضة الفلسطينية في خريف 1987. وخلال أسابيع من انفجار الانتفاضة، كانت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) قد ولت من أحضان جماعة الإخوان المسلمين الفلسطينيين، متبنية ذات الأطروحات التي نادى بها الشقاقي وزملاؤه. ولم يعد ممكناً بعد ذلك أن ترى الساحة الفلسطينية بدون أخذ جناحها الإسلامي في الاعتبار.
إن المسألة الهامة التي لابد أن تلاحظ عند قراءة التيار الإسلامي الفلسطيني أن بنية خطابه المعاصر قد اختلفت عن الخطاب الإسلامي الفلسطيني الذي ساد مرحلة الخمسينات والستينات، كما هي مختلفة عن التوجهات الإسلامية السياسية في بعض بلدان العالم الإسلامي، على الأقل على مستوى الأولويات. إن أيديولوجيا الإسلاميين الفلسطينيين المعاصرين هي نتاج التحام المفاهيم الإسلامية بأفكار حركة التحرر الوطني، حيث يحتل الصراع ضد إسرائيل الموقع الأول في جدول الأولويات، ويندر إلى حد كبير خطاب وهدف إقامة الدولة الإسلامية. إن من الصعب تصور صعود الإسلاميين الفلسطينيين الحثيث خلال العقدين الماضيين بدون احتضانهم لأهداف ومسؤوليات المشروع الوطني الفلسطيني، وتحولهم إلى مدافعين أساسيين عن صيغته التاريخية التي رسمت حدود السياسة الفلسطينية وخارطة قواها منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى.
من ناحية أخرى، وربما بشكل لا ينفصل عن النقطة السابقة، إن من الخطأ رؤية الإسلاميين بمعزل عن التطورات الاجتماعية الانقلابية التي شهدها المجتمع الفلسطيني منذ ما بعد 1948. ينتمي الإسلاميون الفلسطينيون المعاصرون، بأغلب كوادرهم وقياداتهم، إلى القوى الاجتماعية الحديثة في المنطقة العربية، وليس إلى القوى التقليدية المحافظة التي يستدعيها الحديث عن الدين غالباً في مساقات العلوم الاجتماعية الغربية. إن الإسلاميين الفلسطينيين، سواء على مستوى الركائز الاجتماعية التي يستندون إليها (الثروة، الطبقة، والمحيط الاجتماعي)، أو على مستوى خلفياتهم التعليمية والمهنية، هم نتاج حركة التحديث وأثرها على المجتمعات العربية. بل ويمكن القول أنهم بشكل من الأشكال تعبير عن انقسام داخلي في الأنتليجنسيا الفلسطينية وليسوا تحدياً خارجياً لها. هم تعبير عن انقسام القوى الحديثة وعن استيعاب الإسلام لخطاب الحداثة السياسي في الوقت نفسه.